الأمازون.. أحد آخر كنوز الأرض المتبقية مهدد بالضياع

“إن الحرائق التي تشهدها غابات الأمازون تعني أن العالم يحرق مستقبله حرفيا”.. الحديث هنا للمفوضة السامية لدى الأمم المتحدة في حقوق الإنسان ميشيل باشِلت.

تحدثت هذه الأخيرة يوم الاثنين 9 سبتمبر/أيلول 2019 في افتتاح الدورة الـ42 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، منبهة إلى أن أسوأ آثار الحرائق و”التسارع الشديد في إزالة الغابات” في بلدان مثل بوليفيا وباراغواي والبرازيل، وقعت تحديدا على الأسر التي تعيش في هذه المناطق.[1]

أعادت هذه التصريحات إلى الواجهة معركة عالمية بشأن غابات الأمازون يحتمل أن تهيمن على نقاشات اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية سبتمبر/أيلول 2019.

قضية عسكرية

فقبل الخروج القوي لمفوضة الأمم المتحدة المكلفة بحقوق الإنسان، وتحديدا في أواخر أغسطس/آب 2019، تزامنت قمة رؤساء مجموعة الدول السبع الكبرى التي احتضنتها فرنسا، مع اشتداد الجدل الدولي -خاصة بين فرنسا والبرازيل- بشأن الحرائق الكبرى التي اندلعت في غابات الأمازون.

فقد أعلنت الدول السبع في ختام القمة استعدادها لتقديم “المساعدة” للبرازيل من أجل التغلّب على هذه الحرائق، مع تخصيص 20 مليون دولار لهذا الغرض، لكن الرد البرازيلي كان سريعا وقويا برفض هذه المساعدة.

منطقة الأمازون هي أكبر غابات استوائية في العالم، حيث تغطي أكثر من خمسة ملايين كيلومتر مربع
منطقة الأمازون هي أكبر غابات استوائية في العالم، حيث تغطي أكثر من خمسة ملايين كيلومتر مربع

وأتى الردّ بشكل مثير على لسان وزير الدفاع البرازيلي فرناندو أزيفيدو إي سيلفا، مما يشير إلى أن غابات الأمازون تنطوي على أهمية جيوسياسية خاصة، علاوة على أدوارها البيئية.[2]

قال وزير الدفاع البرازيلي إن حرائق الأمازون “تحت السيطرة”، خاصة بعد نشر أكثر من 2500 عسكري وهطول أمطار في غرب الأمازون، مشددا على أن “هناك بعض المبالغة” في تقييم الوضع، وأن البرازيل شهدت “ذروات حرائق أكثر خطورة” خلال فترات ماضية.

وتمثل منطقة الأمازون أهمية جيوسياسية خاصة بالنسبة لدولة البرازيل، كما يُبدي البرازيليون تعلقا وحساسية استثنائيين تجاه هذا الجزء من بلادهم.

ويُعتبر الأمر سابقا على الحرائق الأخيرة التي شهدتها “رئة العالم” في صيف 2019، وحتى على وصول جايير بولسونارو، فقد كان موضوع الأمازون حاضرا بقوة في معركة الانتخابات الرئاسية السابقة، وتلك التي جرت في العام 2014، حيث كان أحد جنرالات الجيش السابقين مرشحا محتملا لتلك الانتخابات، مرتكزا إلى مسؤوليته السابقة عن منطقة الأمازون، ودفاعه عن مصالح سكانها الأصليين، قبل أن يتراجع عن الفكرة.[3]

عقيدة جديدة

مكانة منطقة الأمازون لدى الجيش البرازيلي تعزّزت في السنوات الأخيرة محتلة مكانة خاصة بعدما ظلت تعتبر منطقة هامشية، حيث باتت العقيدة العسكرية البرازيلية تعتبر المنطقة مصدرا محتملا للتهديدات بعدما ظلت تركز قواها تاريخيا في منطقة الجنوب والسواحل الشرقية. فقد جعلت الأهمية الإستراتيجية للأمازون البرازيل تصبح أكثر حساسية تجاه كل ما يمكن أن يمس سيادتها الكاملة على غابات الأمازون وتنميتها واستثمارها اقتصاديا.

بل إن بعض الكتابات تصف حساسية البرازيل تجاه سيادتها على الأمازون بمرض البارانويا، حيث أظهرت دراسة نشرت عام 2008 أن قرابة 83% من الجنود البرازيليين يعتقدون بوجود تهديد بوقوع اجتياح عسكري أجنبي لغابات الأمازون، وهو الشعور الذي لم يكن يتقاسمه سوى 75% من الجنود سنة 2005.

كل حديث من جانب أطراف خارجية عن حماية البيئة في الأمازون والحد من استغلالها المفرط، يثير ردود فعل غاضبة داخل البرازيل باعتبارها محاولات قوى دولية -هي أساسا أمريكا وفرنسا والصين- للسيطرة على ثروات البرازيل.[4]

هذا الشعور الموسوم بالحساسية المفرطة تجاه أي تدخل خارجي في الأمازون، طفا بقوة على السطح مع مجيء الرئيس جايير بولسونارو المعروف بخطابه اليميني الشعبوي، بل إن عناد الرئيس الجديد للبرازيل تجاه مخاوف العالم إزاء الأمازون تحوّلت إلى مضي حثيث نحو إنجاز مشاريع كبرى مثل طريق سيار وجسر ومولد للطاقة الكهربائية في قلب هذه المنطقة.[5]

فاندلاع الحرائق الكبرى في غابات الأمازون صيف 2019، وما تبعه من حرائق سياسية بين البرازيل وأطراف خارجية تتقدمها فرنسا، رافقه تسريب عدد من الوثائق السرية التي تكشف المشاريع والاستثمارات الضخمة التي يسهر بولسونارو على إقامتها في الأمازون[6].

شكوك كبرى

استنفار كبير للجيش من أجل محاصرة الحرائق، لم يخمد سيل الاتهامات الدولية الموجهة إلى بولسونارو ونظامه والتي تفيد بوجود “تواطؤ” -إن لم يكن تسببا مباشرا- في إشعال تلك الحرائق بهدف إخلاء مزيد من الأراضي وتمهيدها بالتالي للاستغلال في الصناعة والزراعة.

ويرى الدكتور باركر بيرن الخبير في مجال الدراسات البيئية، في تصريحات صحفية، إنه من الصعب للغاية نشوب حرائق طبيعية في الأمازون بسبب الأمطار الغزيرة في تلك المنطقة من العالم، وإن ما يحدث من حرائق في حوض الأمازون يأتي في الأغلب على يد البشر.[7]

ويذهب بعض الاقتصاديين أبعد من ذلك، ويوجهون أصابع الاتهام إلى مراكز قوى دولية -أمريكية وأوروبية على وجه الخصوص- ومن يتواطؤون معها من داخل البرازيل. ذلك أن حرائق الأمازون ستنعكس بشكل ملموس على الإنتاج البرازيلي، وبالتالي العالمي، من فول الصويا ولحوم الأبقار، مع ما يعنيه ذلك من أضرار ستلحق بمنافسي البرازيل في هذا المجال.

يقول آدم مو أستاذ التجارة الدولية في جامعة ليدز، في تصريحات صحفية، إن السنوات المقبلة ستشهد ارتفاعا في الإنتاج البرازيلي من فول الصويا ولحوم الأبقار بعد الشروع في استغلال الأراضي الجديدة التي اختفى غطاؤها الغابوي بفعل الحرائق، و”ربما يفسر ذلك تدخل الرئيس الفرنسي بقوة على خط حرائق الأمازون، وذلك كرسالة مباشرة للمزارعين الفرنسيين بمساندة حكومتهم له في وجه المنافسة المتوقعة من لحوم الأبقار البرازيلية، إذ تعد البرازيل أكبر مصدر للحوم الأبقار على مستوى العالم ونحو 20% من إجمالي الصادرات العالمية من اللحوم يأتي من البرازيل”.[8]

وفي الوقت الذي يردّد فيه جلّ من تحدثوا عن حرائق الأمازون مؤخرا أنها ستنعكس سلبيا على المناخ وبالتالي الاقتصاد العالمي؛ ينبّه البعض إلى أن الحقيقة قد تكون عكس ذلك تماما. يقول البروفيسور روني برات أستاذ الدراسات المناخية في جامعة أكسفورد، إن السؤال لا يجب أن يكون كيف تؤثر حرائق غابات الأمازون في الاقتصاد الدولي، وإنما كيف أدى الاقتصاد الدولي إلى حرق الأمازون.

ويشير البروفيسور روني إلى أن حصر التقدم في النمو يدفع منطقيا إلى التوسع على حساب البيئة، “ومن ثم تصبح إزالة أشجار الغابات أو حرقها لإضافة مزيد من المساحة للأراضي الزراعية أو تربية الماشية خيارا منطقيا لتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي”[9].

أحد الكنوز الثلاثة الباقية

منطقة الأمازون هي أكبر غابات استوائية في العالم، حيث تغطي أكثر من خمسة ملايين كيلومتر مربع في تسع دول هي البرازيل وبوليفيا وكولومبيا والإكوادور وغيانا الفرنسية وغيانا وبيرو وسورينام وفنزويلا.[10]

وغابات الأمازون هي خزان هائل لثاني أكسيد الكربون، حيث تخزن ما يصل إلى 100 عام من انبعاثات الكربون التي ينتجها البشر، وهو أمر حيوي لإبطاء وتيرة الاحتباس الحراري. كما أن الأمازون عامل استقرار مناخي، فهو ينتج 20% من الهواء الذي نتنفسه، ويمتلك أيضا 20% من المياه العذبة المتدفقة على هذا الكوكب، بحسب خبراء البيئة.

وبينما اختفى نحو 20% من غابات الأمازون خلال النصف الأخير من القرن الـ20، يحذر العلماء من أن خسارة الأشجار في الأمازون إذا بلغت 25 و40%، يمكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية وزوال الغابات في غضون عقود.[11]

وعلاوة على ثرواتها المادية، يعود تاريخ الشعوب التي تسكن منطقة الأمازون إلى 11 ألف عام، ومنها مجتمعات تشكلت من الأفارقة الذين هربوا من العبودية في الفترة من 1532 إلى 1888، ولا تزال قائمة حتى اليوم.[12]

تعتبر منطقة الأمازون حاليا موطنا لقرابة 30 مليون شخص، ومنهم نحو مليون شخص من السكان الأصليين الذين ينقسمون إلى حوالي 400 قبيلة، وفق جمعية حقوق السكان الأصليين. ويعيش معظم السكان الأصليين في قرى، رغم أن بعضهم لا يزالون بدواً. وتمتلك كل قبيلة لغتها وثقافتها المتميزة، ويرتبطون بشكل تقليدي بالبيئة المحيطة.[13]

يتعلّق الأمر بمنطقة شاسعة، تعادل مساحتها سبع مرات مساحة دولة مثل فرنسا، وتغطي أكثر من 60% من المساحة الإجمالية للبرازيل. وتعتبر غابات الأمازون واحدا من بين ثلاثة “كنوز” ما زالت لم تتعرض للاستغلال والتخريب البشريين حسب بعض الدراسات، وهي إلى جانب “رئة العالمة” كل من أعماق المحيطات، والقطب المتجمد الجنوبي.[14]

ناقوس الخطر

بعيدا عن الاتهامات السياسية التي قد يوجهها إليه خصومه، بدأت معركة حرائق الأمازون أواسط صيف 2019 ضد بولسونارو عندما صدرت أرقام إحصائية رسمية في البرازيل تفيد بارتفاع قياسي في وتيرة اجتثاث الأشجار في غابات الأمازون، وذلك بعد شهور قليلة من وصول بولسونارو إلى الحكم.

انتهت المعركة باستقالة مدير المعهد الوطني لأبحاث الفضاء (INPE) ريكاردو غالفاو الذي أصدر تلك الأرقام، ثم سرعان ما انخرط بولسونارو في مشاحنات مع بعض أغنى بلدان أوروبا بشأن التدخل من أجل حماية المنطقة.

عمّم المعهد الوطني لأبحاث الفضاء (INPE) معطيات عن المعدل السنوي لاجتثاث الغابات، والذي شهد زيادة بنسبة 40%، مع ارتفاع يتجاوز المعدل، كما أن شهر يوليو/تموز شهد أكبر خسارة للغطاء النباتي في شهر واحد منذ عام 2015، مع ارتفاع معدل إزالة الغابات بنسبة 212% عن يوليو/تموزز 2017.[15]

لم يجد بولسونارو أمام هذه الأرقام إلا الهروب إلى الأمام واتهام المعهد الفضائي بنشر أرقام مزيفة، فاستقال مدير المعهد الوطني، وسارعت دول مثل ألمانيا والنرويج إلى تعليق تبرعاتهما لصندوق الأمازون الذي يتولى تمويل المعهد البرازيلي للبيئة والموارد الطبيعية المتجددة (IBAMA) والوكالات البيئية الحكومية في ولاية الأمازون وخمس ولايات برازيلية أخرى[16].

المؤكد في ظل تضارب التفسيرات أن الحرائق المهولة التي اشتعلت هذا الصيف بغابات الأمازون، جاءت أساسا في الجزء الموجود في البرازيل. وبعد الصور المخيفة التي تم التقاطها من الفضاء لآثار هذه الحرائق، أعلن المعهد الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء في أواخر شهر أغسطس/آب 2019 تسجيل أكثر من 9500 حريق غابات جديد في البرازيل منذ منتصف الشهر نفسه.

وفي المجموع، سجّل المعهد نحو 73 ألف حريق خلال الشهور الثمانية الأولى من العام، وهو ما قلّلت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” من أهميته، معتبرة أن نشاط الحرائق إجمالا يبقى قريبا من المتوسط السنوي مقارنة بالـ15 عاما الأخيرة.[17]

رئة العالم.. هل هذا حقيقي؟

مقولة “الأمازون رئة الأرض” التي ترددت عبر أرجاء العالم تزامنا مع الحرائق الأخيرة، لا تعتبر بالضرورة حقيقة مطلقة. فإنتاج الأكسجين لا يعتمد فقط على الغطاء النباتي الأرضي، حسب صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية. فقد نبّهت هذه الأخيرة إلى أن قسم الإعلام بالرئاسة الفرنسية استخدم مؤخرا هذه الصيغة مع تغريدة للرئيس الفرنسي تقول إن الأمازون تنتج “20% من الأكسجين” الذي نتنفسه، مشيرا إلى أن المعلومتين غير صحيحتين، وأنهما قد تجعلان بعض الناس يعتقد أن استمرار حرائق الأمازون قد يسبب نقصا في الأكسجين، الأمر الذي أكدت الصحيفة أنه غير صحيح البتة.[18]

وقالت الصحيفة الفرنسية في سياق الجدل الذي أثارته الحرائق الأخيرة بين البرازيل وفرنسا، إن غابات الأمازون المطيرة -رغم عظمتها- لا تنتج سوى جزء بسيط من الأكسجين في الجو. وأضافت أن المحيطات هي التي تنتج نصف الأكسجين الذي نتنفسه، والباقي ينبعث من الغطاء النباتي الأرضي الذي لا تمثل منه غابات الأمازون إلا جزءا صغيرا جدا، وبالتالي فهي مصدر لنحو 5% فقط من إجمالي الأكسجين في الغلاف الجوي.[19]

وأقرّت لوفيغارو رغم كل ذلك بأن خسارة غابات الأمازون تمثل كارثة حقيقية، حيث إن ذلك يُعرّض السكان الأصليين للخطر، ويزيل هذا التنوع البيولوجي الفريد من نوعه في العالم، سواء بالنسبة للنباتات أو الحيوانات، كما أن لهذه الكارثة تأثيرا كبيرا على المناخين الإقليمي والعالمي.

غير أن هذا الموقف الذي يقلل من أهمية الأمازون في حفظ توازن المناخ لا يكترث به الحاملون لفكرة الرأسمالية العالمية المتوحشة التي “تفترس” ثروات الشعوب، فهؤلاء يُعظّمون من قدر غابات الأمازون ويعتبرون أن الأمر يتعلّق بأكبر غابة مطرية مدارية في العالم، وكمجال يستوعب التنوّع البيولوجي الجيني لكوكب الأرض، ويضم موارد معدنية هائلة. “إن دُمرت الأمازون، فسيتدمر الكوكب. إنّ نهب الأمازون يعني السير في طريق تدمير الكوكب”.[20]

هذا التعظيم من قدر وأهمية غابات الأمازون يقود إلى اعتبارها هدفا لرؤوس الأموال العالمية، وسعي الشركات المتعددة الجنسيات إلى استكشاف واستغلال ثرواتها، وهو ما يقول أصحاب هذه الأطروحة بأنه يجعل البرازيل تحت ضغوط مستمرة من جانب مراكز قوى دولية ترمي إلى حملها على منح إعفاءات ضريبية وتسهيلات جديدة لهذه الشركات مقابل ما يُقدّم على أنه تنمية لهذه المنطقة الشاسعة من البلاد.

حساسية برازيلية قديمة

تعود محاولات الحكومة البرازيلية لبسط سيطرتها الكاملة على غابات الأمازون إلى نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين، في إطار خطة شاملة ترمي إلى تحديث البرازيل.

وقد راهنت البرازيل حينها على “رئة العالم” لامتصاص توتراها الاجتماعية من خلال فرص الاستثمار الجديدة والأسواق التي يمكن إحداثها من خلال غابات الأمازون، ووسيلة لدرء المخاطر الجيوإستراتيجية والتهديدات المحتملة من خلال شساعة المنطقة التي تسمح بنشوء بؤر ثورية مسلحة.[21]

تعتبر منطقة الأمازون حاليا موطنا لقرابة 30 مليون شخص
تعتبر منطقة الأمازون حاليا موطنا لقرابة 30 مليون شخص

وتطلّب تحقيق هذه الخطة حينها مدّ تجهيزات جديدة نحو منطقة الأمازون، من قبيل شق طرق وتزويد بالاتصالات ومدّ لخطوط التيار الكهربائي وبناء للسكك الحديد.. كما سهّلت الحكومة البرازيلية حينها تدفق الرساميل نحو منطقة الأمازون عبر تسهيل الاقتراض وتخفيف العبء الضريبي وإطلاق دعاية مكثفة تحفز السكان على الهجرة والاستقرار في هذه المنطقة العذراء.[22]

تعثّرت هذه الخطة خلال السبعينيات بسبب الأزمة التي تسبب فيها ارتفاع أسعار البترول في الأسواق العالمية، وارتفاع معدلات الفوائد مقابل الحصول على التمويلات من الأسواق العالمية. لكن ذلك لم يمنع من توسيع بعض الأنشطة الاستثمارية خاصة في مجال التنقيب عن المعادن واستغلال المناجم، ولا سيما بعد وفرة الطاقة الكهربائية التي أتاحها واحد من أكبر السدود التي تم تشييدها في المنطقة.

سجّلت الدراسات العلمية منذ ذلك الوقت غياب الاعتبارات البيئية والتنوع الاجتماعي عن السياسات العمومية للبرازيل في منطقة الأمازون. ففي مقابل التسهيلات والمنح السخية الموجهة للشركات الكبرى، تُرك السكان الذين استقروا في المدن الجديدة بالأمازون مكدسين في سكن غير لائق وبنى تحتية شبه غائبة، مع ما نتج عن ذلك من توترات اجتماعية كبيرة بين السكان الوافدين ونظرائهم الأصليين، وبين الفلاحين وخصومهم من الباحثين عن الذهب والمعادن، وبين هؤلاء وبين الشركات الكبرى الساعية إلى احتكار التنقيب والاستغلال.[23]

اهتمام بيئي حديث

في منتصف الثمانينيات، عادت السلطات البرازيلية لتخص الأمازون بسياسات جديدة حاولت أن تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والبيئية التي أغفلتها في السابق.

حينها كانت الأمازون قد تحوّلت إلى مجال حضري وصناعي كبير يجر قاطرة النمو في البرازيل، والتوترات التي كانت تتخذ طابعا عنيفا وأهليا في السابق، تتخذ شكلا آخر من خلال نضالات هيئات مدنية منظمة مرتبطة بحلفاء خارجيين أقوياء.[24]

تنمية منطقة الأمازون واستغلالها رافقته عملية اجتثاث سريع للغابات، وتلويث للمياه والتربة والجو باستعمال وسائل غير نظيفة لإنتاج الطاقة، خاصة منها تلك التي تخلّف كميات كبيرة من الرصاص، وبات الهاجس الأول هو تمكين الشركات الكبرى من خفض كلفة الإنتاج وبالتالي تحقيق أرباح أكبر.

فمخطط “إلكتروبراس” (electrobras) الذي وضع سنة 2010 مثلا، وضع هدف بناء 79 مصنعا جديدا خلال عشر سنوات جلها في قلب منطقة الأمازون، وتحديدا قرب مسارات الأودية والأنهار، مع ما يعنيه ذلك من ضغط ديمغرافي.[25]

أنتجت أزمة الثمانينيات والتسعينيات الاقتصادية أمريكا لاتينية مختلفة، فبالنسبة لقارة فَرض عليها التاريخ التبعية والخضوع؛ شكّلت نهاية الحرب الباردة فرصة لفتح مجالات للحرية الدبلوماسية. وتَمثّل هذا التحرّر في خروج دول هذه القارة إلى العالم بحثا عن شراكات مع قوى جديدة مثل الصين وروسيا والهند، والخروج بالتالي من وضعية الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية.

غابات الأمازون لم تقف على هامش هذا التحوّل، بل أصبحت السيطرة عليها والاستعداد للقتال من أجلها جزءا من الخطاب الذي تُبنى عليه اللحمة الوطنية في الدول التي تحوز مساحات منها.[26]

الغابة التي “تحكم” البرازيل

اشتد الجدل العالمي بشأن استغلال أو حماية غابات الأمازون في السنوات العشر الماضية، وهو ما يفسّره دعاة الحماية بالأزمة التي دخلها النظام الرأسمالي عالميا منذ العام 2008. نظام دولي قائم يتهمه البعض بتكريس هيمنة قلة قليلة على ثروات العالم، ومحاولة إدامة ذلك من خلال الوصول إلى المناطق والمجالات المنفلتة من الاستغلال.

فقد بات البلد الذي يضم أكبر مساحة من غابات الأمازون، أي البرازيل، يعتمد سياسيا واقتصاديا على تأثير هذا الملف، لدرجة يجزم معها البعض بأنه وراء تشكيل المشهد السياسي البرازيلي الذي انتهى بانتخاب بولسونارو في يناير/كانون الثاني 2019، حيث كان للنخب المحلية والدولية المرتبطة بقطاعات الصناعة الزراعية والتعدين دور رائد في حدوث الانقلاب الناعم الذي بدأ باتهام الرئيسة ديلما روسيف، ومحاكمة الرئيس لولا، ومن ثم صعود اليميني الشعبوي جايير بولسونارو.[27]

ففي عهد الرئيس ميشيل تيمر -الذي كان نائبا للرئيسة ديلما روسيف وعوّضها في منصب الرئاسة بعد عزلها صيف العام 2016 بدعوى شبهات الفساد- حققت جماعات الضغط المرتبطة باللوبيات الصناعية والزراعية عدة مكاسب، مثل إعفائهم من بعض الديون تجاه الحكومة، لكن ضعف شرعية الرئيس تيمر حال دون تحقيق المزيد، مما تطلّب دعم شخصية شعبوية من عيار جايير بولسونارو.[28]

فمنذ إعلان هذا الأخير ترشحه لمنصب الرئاسة في العام 2018، كشف صراحة عن برنامجه السياسي القائم على إطلاق أيدي اللوبيات الصناعية والزراعية في الأمازون، وذلك عبر السماح بعمليات استكشاف واستغلال واسعة. وقد وحّد بولسونارو من خلال هذا البرنامج كلا من البرجوازية المحلية في البرازيل، وبعض مراكز القوة والنفوذ دوليا المتوثبة لاقتحام منطقة الأمازون. وعبّر بولسونارو بوضوح عن عدائه تجاه المنظمات المدافعة عن البيئة، بل كاد يلغي وزارة البيئة من الحكومة، قبل أن يستعيض عن ذلك بإضعافها عبر تعديل هيكلة الحكومة.[29]

في خلفية المشهد يوجد صراع من أجل الوجود تخوضه بعض القبائل التي ينتسب إليها السكان الأصليون للأمازون، وذلك في مواجهة الآلة الاقتصادية الفتاكة التي تقتحم المنطقة مسنودة بدعم سياسي كبير.

فقبيلة “الكايابو” مثلا تعيش صراعا دائما مع السلطات في البرازيل للدفاع عما تبقى من ثروتها الطبيعية والبيئية، خصوصا النباتية والحيوانية التي تتعرض للتدمير بسبب “الاحتلال الصناعي الخطير لأراضيهم من قبل المجتمع الأبيض” على حد اعتبارهم.

في المقابل، لا يتوانى الرئيس البرازيلي بولسونارو عن وصفهم بـ”الحيوانات”، مما أثار غضبهم ودفع زعيمهم للسفر إلى أوروبا لدق ناقوس الخطر.[30]

 

المصادر:

[1] https://news.un.org/ar/story/2019/09/1039282
[2] https://shorturl.at/inQY9
[3] https://www.diploweb.com/Bresil-L-Amazonie-est-a-nous.html

[4] https://www.diploweb.com/Bresil-L-Amazonie-est-a-nous.html

[5] https://www.20minutes.fr/monde/2587899-20190823-amazonie-strategie-jair-bolsonaro-lutter-contre-pression-internationale

[6] https://www.20minutes.fr/monde/2587899-20190823-amazonie-strategie-jair-bolsonaro-lutter-contre-pression-internationale

[7] https://www.elfagr.com/3709731
[8] https://www.elfagr.com/3709731

[9] https://www.elfagr.com/3709731
[10] https://shorturl.at/cgx46
[11] https://shorturl.at/cgx46
[12] http://www.kassioun.org/more-categories/misc-2/item/61279-1
[13] https://shorturl.at/orxR7
[14] https://www.diploweb.com/Bresil-L-Amazonie-est-a-nous.html

[15] http://www.marxy.com/latinamerica/Brazil/muerte-y-destruccion-en-la-amazonia-de-bolsonaro.htm
[16] http://www.marxy.com/latinamerica/Brazil/muerte-y-destruccion-en-la-amazonia-de-bolsonaro.htm
[17] https://shorturl.at/fyAV5
[18] https://shorturl.at/oMNOU
[19] https://shorturl.at/elsNO
[20] http://www.kassioun.org/more-categories/misc-2/item/61279-1
[21] http://horizon.documentation.ird.fr/exl-doc/pleins_textes/divers10-05/010026525.pdf
[22] http://horizon.documentation.ird.fr/exl-doc/pleins_textes/divers10-05/010026525.pdf
[23] http://horizon.documentation.ird.fr/exl-doc/pleins_textes/divers10-05/010026525.pdf
[24] http://horizon.documentation.ird.fr/exl-doc/pleins_textes/divers10-05/010026525.pdf
[25] http://horizon.documentation.ird.fr/exl-doc/pleins_textes/divers10-05/010026525.pdf
[26] https://www.iris-france.org/wp-content/uploads/2016/04/2016-avril-ETUDE-G%C3%A9opolitique-de-la-nouvelle-Am%C3%A9rique-latine.pdf
[27] http://www.kassioun.org/more-categories/misc-2/item/61279-1
[28] http://www.kassioun.org/more-categories/misc-2/item/61279-1
[29] http://www.kassioun.org/more-categories/misc-2/item/61279-1
[30] https://shorturl.at/cguxB