“التعرف على الوجوه”.. تقنيات ذكية تتجاوز سقف الخيال وجدران الخصوصية

تخيلوا عالَما تكون فيه وجوهكم أكثر من مجرد كلمة مرور، وتخيلوا لو كانت مفاتيح لمنازلكم ووسيلة الوصول إلى أموالكم وتصريح دخولكم، فبفضل تكنولوجيا التعرف على الوجه ستكون الحياة في المستقبل أكثر أمانا وسهولة. ولكن: هل هذا كل ما في الأمر؟

في فيلم “التعرف على الوجوه” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “نظرة على”، يأخذنا الباحث “جوشوا ليم” في رحلة لاستكشاف أحدث التقنيات التي ستغير العالم، محاولين البحث عن أجوبة لأسئلة ظلت مستعصية على العلم لسنوات طويلة. ويدخل “ليم” في هذا الفيلم إلى العالم المستقبلي لتقنية “التعرف على الوجه”، ويلعب لعبة مع الأمن ليعرف ما إن كان بإمكانهم إيجاده عبر نظام التعرف على الوجه، وسيعرفكم كم تتغير حياتنا، وسيكتشف الثمن الباهظ لهذه التكنولوجيا الحديثة.

لقد بات العالم أكثر جنونا وأشد تعقيدا، ولذا فإن “جوشوا ليم” سيساعدكم على فهم ما يجري من حولكم، وسيقربكم أكثر من الواقع، وسيروي قصصا أكثر إمتاعا، ويمنحكم رؤية أعمق.

“يجاملونني أم يقولون الحقيقة؟”.. تقنية تكشف ما في الضمائر

في دار الفنون التي كانت معقلا للبرلمان السنغافوري ومحفلا للفنون، أقيم معرض صور لـ”جوشوا ليم” بمناسبة الذكرى الثامنة لدخوله عالم الفن، لذا قرر المنتجون إقامة معرض لأكثر اللحظات تميزا له على المسرح. يقول “جوشوا ليم”: بعد العرض يخبرني البعض كم استمتعوا بأدائي، لكن العلاقات البشرية قد تكون معقدة، فلا يمكن التأكد ما إذا كانوا يجاملونني أم يقولون الحقيقة. ماذا لو أخبرتكم أن هناك طريقة لمعرفة ذلك بشكل مؤكد؟

إنها تكنولوجيا ستنتشر في كل مكان، بداية من أعمدة الإنارة، مرورا بمراكز التسوق، وانتهاء بالمطارات، وهي تقنية التعرف على الوجه، وللتعرف على رأي ضيوفه في المعرض، فقد تعاون مع “إكس جيرالابز”، وهي شركة ذكاء صناعي ناشئة طورت نظاما للتعرف على الوجوه من لقطات فيديو في غضون ثوان، ونصبوا 9 كاميرات في المعرض.

تقنية التعرف على الوجوه ستشهد ازدهارا كثيفا خلال السنوات المقبلة لما فيها من أهمية كبيرة للحكومات

ودون علم أصدقائه وعائلته الذين كانوا يستمتعون بصوره، يجمع فريق “إكس جيرالابز” بيانات عنهم عبر برنامج تحليل يعالج الصور التي تلتقطها الكاميرات، بهدف التعرف على رأي الضيوف الحقيقي في المعرض، ويبدو أن الاهتمام الأكبر بصورة من مسرحية “فراند باي أدولف”، حيث يلعب دور يهودي يحاول بيع لوحة رسمها “أدولف هتلر”. فهل يؤكد رأيهم نظام التعرف على الوجه؟

وفي اليوم التالي زار “ليم” الشركة ليطلعوه على المعلومات التي جمعها الفريق، وطرح عليهم سؤالا: كيف تقيسون مدى الاهتمام؟

يشرح “جانغ جونوو” مهندس الحلول في شركة “إكس جيرالابز”: يصور نظامنا الوجوه على فترات زمنية ثابتة، كما يحصي عددها أمام كاميرات بعينها، وكلما زاد عددها زادت شعبية الصورة.

في معرض للصور، نصبت كاميرات مراقبة خلف كل لوحة لدراسة وجوه الحاضرين ومدى تفاعلهم معها

وقد حدد “جانغ” الصورة الأقل والأكثر إثارة للاهتمام من خلال هذه التقنية، وتطابق تحليل “جوشوا ليم” مع النتائج، إذ فازت صورة “فراند باي أدولف” بأكثرها شعبية بعد أن بلغت 2300 وجه. ولكن الفائز الأكبر من المعرض هو طاولة الطعام، إذ بلغت نحو 9 آلاف وجه، وهذا ما جعله يتساءل من الذي جاء ليتناول الطعام دون أن يشاهد أي صورة، وبإمكان نظام “إكس جيرالابز” تحديد عدد من شاهدوا الصور والوقت الذي أمضوه عند كل صورة، لكنها لا تستطيع تحديد هوياتهم.

يقول “جوشوا”: أفتقد أمرا في غاية الأهمية، وهو قاعدة بيانات الهويات الصورية، فبدون هذه القاعدة التي تطابق وجهك مع معلوماتك لن أتمكن من التعرف عليك، ولن أستغل إمكانات تكنولوجيا التعرف على الوجه بالشكل الكامل.

نظام التعرف على الوجه.. خطة تقنية تغطي سنغافورة

نظام التعرف على الوجه هو تطبيق حاسوب يستطيع التعرف على الشخص باستخدام قاعدة بيانات صورية، وآلية عمله هي أن يحدد الحاسوب في الوجه معالم تسمى نقاط الالتقاء، وتشمل المسافة بين عينيك وعمق تجويفهما وعرض أنفك، ويقيس الحاسوب 80 نقطة منها، وينشئ رمزا فريدا يربطه بك، ثم تدخل هذه المعلومات إلى قاعدة بيانات صورية للعثور على تطابق. يمكن اعتبارها بصمة وجه.

نقاط الالتقاء، هي معالم في الوجه يصل عددها إلى 80 نقطة منها المسافة بين العينين وعرض الأنف

في 2017 فاز برنامج تحليل الفيديو الخاص بشركة “إكس جيرالابز” بمسابقة نظمها مطار شانغي في سنغافورة، ويعملون الآن على مشروع تجريبي لتحسين عمليات المطار. يقول “إيثان تشو” المدير التنفيذي لشركة “إكس جيرالابز”: ما يميز نظامنا التجريبي للتعرف على الوجه هو أن في وسعه تمييز ما إذا كان الوجه حقيقيا أم مزيفا. ويساعد هذا النظام السلطات الأمنية على كشف المشتبه بهم على الطرق، ويسهم في زيادة الإنتاجية، أي أننا لن نحتاج إلى عدد كبير من حراس الأمن.

يعد انتحال الشخصية من أشهر طرق تجاوز نظام التعرف على الوجه، ويقوم على محاولة الحصول على حق شخص آخر بالولوج إلى أماكن محددة باستخدام صورة أو مقطع فيديو أو وجه بديل لذلك المصرح له، ومن دون إجراءات مكافحة الانتحال لن يكون نظام التعرف على الوجه آمنا بما يكفي لاستخدامه على نطاق واسع. ولهذا فإن تكنولوجيا التعرف على الوجه والمسح الأمني تتزايد في كل أنحاء العالم.

يمكن لتكنولوجيا التعرف على الوجوه التفريق بين الوجه الحقيقي والمزيف

وتسعى سنغافورة لتطبيق واسع لنظام التعرف على الوجه من خلال 100 ألف كاميرا تساعد السلطات على تمييز الوجوه، للحد من الازدحام المروري ومكافحة الإرهاب، وفي المطار يساعدك وجهك في اجتياز الإجراءات الأمنية بسهولة، وفي المصرف سيُتعرف عليك فور دخولك، وهذا كله خلال العامين المقبلين.

بلاد المليار.. أكبر قاعدة بيانات للهويات الصورية في العالم

على بعد بضعة آلاف من الكيلومترات، بات هذا النظام واقعا في الصين، وأصبح لديها أكبر عدد من كاميرات المراقبة، وأفضل خوارزميات التعرف على الوجه، وأكبر قاعدة بيانات للهويات الصورية في العالم، وتتاح لها وسائل لبناء أقوى نظام مراقبة في العالم، بحيث يكون قادرا على تحديد وتعقب أكثر من مليار شخص. ولكن كيف ساهم ذلك في تغيير حياة المواطن العادي.

ألوف الكاميرات موزعة في كل مدينة صينية لمراقبة الناس في جميع حركاتهم وسكناتهم

تجيب “جنين وانغ”، وهي باحثة لدى صحيفة ألمانية، وتركز على الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا في الصين، إذ تقول: بدأ استخدام نظام التعرف على الوجه في السنوات الماضية، وقد رأيت تكنولوجيا التعرف على الوجه لأول مرة في الجامعة حين قامت بتطبيقه عام 2018، فقد وضعت نظاما للتعرف على الوجه عند بوابة الجامعة، ويتحتم على الداخلين إلى حرم الجامعة تمرير البطاقة الجامعية أو الشخصية، ولا يمكن الدخول إلا بعد تطابق الهوية مع بيانات النظام.

وحتى الحمّام العام في الصين يطبقون فيه تكنولوجيا التعرف على الوجه لسبب مفاجئ ومضحك في آن، فموزع المناديل في الحمام العام يستخدم تكنولوجيا التعرف على الوجه، وعليك أن تحدق في الجهاز لمدة 3 ثوان حتى تحصل على حصتك من المناديل.

في الحمامات العامة، وباستخدام بصمة الوجه يمكنك الحصول على كمية محدودة من ورق التواليت

ولتحسين معايير الحمامات العمومية ركبت 70 ألف مرحاض جديد في الأماكن السياحية حول الصين في السنوات الماضي، وزود بعضها بتكنولوجيا التعرف على الوجه، لكي يتذكر موزع المناديل الوجه، ولا يسمح بأخذ كمية أكبر من اللازم.

“سونينغ بايو”.. متاجر ذاتية الإدارة تشتري فيها بوجهك

قد يكون نظام التعرف على الوجه هو ما تحتاجه تجارة التجزئة للتفوق على التجارة الإلكترونية، وهناك متجر في الصين يسمى “سونينغ بايو”، وهو ذاتي الإدارة، ويجب استخدام الوجه للدخول إلى المتجر والشراء منه، ولدخول المتجر يجب أن يكون لدى العميل حساب بصورة ذاتية، ويدخل عبر النظر إلى كاميرا نظام التعرف على الوجه، ومطابقة وجهه مع قاعدة بيانات الشركة.

متجر ذكي بلا موظفين يعمل ببصمة الوجه في الشراء والدفع

و”بايو” هو مفهوم جديد للبيع بالتجزئة من شركة “سونينغ” عملاقة التجزئة التي تنشط في 700 مدينة حول الصين. ويجمع المتجر الذاتي بين سهولة التسوق الإلكتروني وتجربة التسوق الفعلي في المتجر التقليدي. يقول “زهو ويبي” وهو مدير في شركة “سونينغ بايو” بشنغهاي: أجرت الشركة تجارب كثيرة، ووجهت الدعوة إلى توائم متطابقة وفناني تقمص وسيدات لاختبار النظام من خلال تغيير كمية المكياج التي يضعونها، وقد غيرت النتائج فهمنا لهذه التكنولوجيا كليا، فحساسية التعرف على الوجه عالية جدا ولم يخطئ أبدا، فنحن نطبق في هذا المتجر سياسة الدخول السهل والخروج الحازم.

تدرج الشركة هذه التكنولوجيا في مزيد من المتاجر في المستقبل، لأنها تسمح لها بنشر الموارد البشرية المحدودة بشكل أفضل، لتحسين جودة الخدمة، كما أن المتجر ذاتي الإدارة يوفر تجربة أفضل وأكثر حميمية، فكثير من الزبائن لا يحبون أن يزعجهم البائعون خلال تسوقهم، بالإضافة إلى ذلك فإن بإمكان تكنولوجيا التعرف على الوجه أن تقدم إمكانيات كبيرة للتطور، فبيانات وجه العميل باتت في حوزة الشركة، وبإمكانه الدخول والدفع بوجهه فقط.

يقوم الذكاء الاصطناعي في المتجر الذكي باقتراح بعض المنتجات التي يمكن أن تهم الزبون

عملية الدفع سهلة تستغرق 6 ثوان فقط، ويعمل النظام بتقنيتين؛ هما التعرف على الوجه للتحقق مجددا من هويتك، والتردد الراديوي لتسجيل السلع التي ترغب بشرائها، ثم يقوم المتجر بسداد الفاتورة تلقائيا باستخدام البطاقة المصرفية المرتبطة بالحساب.

“إنه شعور غريب أن تراقبك الحكومة باستمرار”

رغم استخدام نظام التعرف على الوجه في مجالات عدة، فإنه يبقى أكثر شيوعا في المجال الأمني وإنفاذ القانون، وفي الصين زُوّد كثير من كاميرات الشوارع بتقنية التعرف على الوجه، فإذا عبرت الشارع بشكل مخالف للقانون ستلتقط صورتك وتوصم بالعار علانية.

وستطابق صور المخالفين مع قاعدة بيانات الهوية الوطنية في الصين وتكشف هويتهم في وقت قصير، ثم تنبهك شرطة المرور وترسل لك رسالة تفيد بأنك ستدفع غرامة في مركز الشرطة، ويطلعونك على قواعد المرور كلها كي لا تخالفها مرة أخرى، وتملك الشرطة في الصين صلاحية الدخول إلى قاعدة البيانات الوطنية، لذا فهي تملك معلوماتك كلها وبمجرد ظهور وجهك على الكاميرات تظهر لديهم كل المعطيات.

في الصين تعرض كاميرات الشوارع صور المشاة والراكبين المخالفين لقوانين السير

تعبر الباحثة “جنين وانغ” عن قلقها بشأن الخصوصية، وتقول: لا أريد أن يتتبعني أحد طوال الوقت، ويعرف وجهتي ونوع طعامي وطبيعة مشترياتي، إنه شعور غريب أن تراقبك الحكومة باستمرار.

المراقبة مفيدة في الأمن والمرور، لكن أن يصبح التعرف على الأشخاص ممكنا وإرسال رسالة فورية لهم، فهذا يسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية رغم التسهيلات التي ترافقه، وكل هذا يبرر الشعبية الكبيرة لميزة تكنولوجيا التعرف على الوجه بالنسبة للسلطات الأمنية ورجال إنفاذ القانون. وقد أظهر استطلاع أجرته أنظمة المراقبة بالفيديو ومعهد “تنست” للأبحاث في الصين أن 3 من كل 4 أشخاص يشعرون بأن الذكاء الصناعي يهدد خصوصياتهم.

ولكن المراقبة وتكنولوجيا التعرف على الوجه ليست حكرا على المدن الكبيرة والمزدحمة، بل هي موجودة أيضا في المدن السياحية، فمدينة أوجن المائية هي وجهة سياحية مذهلة بسبب هندستها المعمارية التي تعود إلى قرون، وما قد يفاجئكم هو أنها تتمتع بتكنولوجيا فائقة التقدم، وهي من أولى مناطق الجذب السياحية التي استخدمت التعرف على الوجه في عملياتها وأمنها.

عند مدخل مدينة أوجن المائية تتعرف الكاميرات على وجهك وتدخل بياناتك لأول مرة لمراقبتك فيما بعد

تبلغ مساحة أوجن 5 كيلومترات مربعة، ويدخل إليها يوميا 40 ألف شخص، ويعني ذلك أنه إذا كان هناك هارب من العدالة بيننا سيستغرق الأمر وقتا طويلا لتمشيط المنطقة أمنيا، بسبب المساحة وعدد الزوار، وهذه إحدى المشاكل التي صممت لأجلها تكنولوجيا التعرف على الوجه، واليوم سنتعرف على الطريقة.

مدينة أوجن.. نظام يجدك بين مئات الأشخاص خلال دقائق

لعب “جوشوا ليم” لعبة مع نظام الأمن، وأجرى اختبارا صغيرا ليتعرف ما إذا كان سيعثر عليه بين الزائرين للمدينة، باستخدام نظام التعرف على الوجه، فبمجرد أن يعبر الزوار البوابة تلتقط الكاميرات الوجوه، وتضيفها تلقائيا إلى النظام.

وكانت خطته الاختباء على مرأى من الجميع، لذا بحث عن أكثر الشوارع ازدحاما في أوجن، ليكون محاطا بمئات الأشخاص، لكن الحاسوب احتاج 5 دقائق فقط لتحديد موقعه. يقول “جين جو” رئيس القسم الأمني في مدينة أوجن: من خلال تقنية التعرف على الوجه يمكننا تحديد موقع الأشخاص التائهين أو المطلوبين بسرعة فائقة، فأي طفل دخل من بوابة المدينة وفقده أهله سنعرف كم مضى على فقدانه بناء على الصورة التي التقطت له عند البوابة أو صورته الخاصة، وسينبهنا نظام التعرف على الوجه لحظة ظهوره في المدينة.

غرفة التحكم بكاميرات مدينة أوجن حيث من السهل مراقبة ومتابعة أي فرد فيها

قبل هذا النظام كان يستغرق إيجاد طفل مفقود وقتا طويلا، أما الآن مع نظام التعرف على الوجه فإنه يستغرق من نصف ساعة إلى ساعة كحد أقصى. يقول “جين جو”: يسجل نظام التعرف على الوجه كل شخص يعبر أمامه بناء على الشبه بينه وبين الشخص المطلوب، وتساعدنا النتيجة في التعرف عليه، وهذا النظام دقيق لدرجة أن الخطأ في التعرف على الأشخاص يكاد يكون معدوما.

توجد 3 آلاف كاميرا أمنية في أوجن، أي واحدة لكل 12 زائرا، لكن 4 منها فقط مجهزة بشرائح حديثة تسمح بالتعرف على الوجه. وتخطط أوجن لزيادة عددها إلى 24، ويأمل المسؤول الأمني أنه مع تقدم التكنولوجيا تمكن إضافة شرائح التعرف على الوجه إلى كافة الكاميرات المنتشرة في المدينة.

“شبكة السماء”.. 30 مليار دولار لمراقبتك أينما كنت

من أجل جعل المراقبة والتعرف على الوجوه حقيقة واقعة، أنفقت الصين في عامين 30 مليار دولار على تركيب عشرات ملايين الكاميرات ونصب معدات المراقبة، وتعمل الحكومة على تجهيز مزيد من الكاميرات الأمنية بقدرات التعرف على الوجه، والنتيجة مراقبة ضخمة تعرف بـ”شبكة السماء” وهو تطور يثير قلق البعض.

“شبكة السماء” هو نظام المراقبة الصينية للشعب عبر ملايين الكاميرات الموزعة في كل مكان

“جانغ ليفان” هو مفكر وباحث في التاريخ الصيني مطلع القرن العشرين، وغالبا ما تضعه مطالباته بالإصلاحات السياسية على خلافات مع قيادة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم. يقول: إذا لم تكن تحت المراقبة فلا داعي للقلق، أما الأشخاص مثلي فنحن مثيرون للجدل.

في الماضي كنتُ كلما خرجت من منزلي وجدت سيارة تتعقبني أينما أذهب، أما اليوم فهناك كاميرات في كل مكان، وباتت السلطات تعتمد على شبكات المراقبة التي تنتشر في كل أنحاء المدينة، بحيث ترصد أي تحرك عندما تدخل أو تغادر الشبكة.

في الصين، توجد عشرات الكاميرات الذكية في كل شارع تتحرك في جميع الاتجاهات الممكنة

لم ألحظ في السنوات الماضية سوى حالة واحدة لسيارة تتعقبني، لأنهم ما عادوا يلجؤون للتعقب والمراقبة بشكل عام، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي، ولكن الصين لا تميز بين المجالين العام والخاص، ولذلك تشعر الحكومة أنه من الطبيعي أن تراقب مواطنيها، فالغرض من نظام التعرف على الوجه جيد في حقيقته، إذ يستخدم لضمان أمان المجتمع، لكن استخدامه يساء أيضا وينتهك الخصوصية الفردية.

ويتابع قائلا: حتى الأشخاص العاديون البعيدون عن السياسة يمكن للسلطات اعتبارهم أعداء للدولة وقت ما يشاءون، لأنهم قادرون على تبيان آرائك السياسية، عبر البحث في حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي، وإذا كنت سيئ الحظ تصنف على أنك “في وضع اهتمام”، وهذا يؤدي إلى تصاعد الرقابة عليك، ولا يمكن للمرء الاختباء عن عيون الرقيب، فشبكة السماء للمراقبة لا مفر منها، لأنها تغطي السماء والأرض.

حاول بطل الوثائقي أن يختبئ في زحام مدينة أوجن متحديا نظام الكاميرات، لكنها عثرت عليه خلال خمس دقائق فقط

وختم: إذا كنت تعيش في الصين اليوم، فالواقع أنك مراقب دائم وعليك تقبله، فلا وجود لأي مكان يمكن اللجوء إليه، فهذه الشبكة تستطيع إيجادك بسهولة، بصرف النظر عن المكان التي تقطن فيه، وحتى إذا كنت تعيش بمناطق ذات كثافة سكانية منخفضة، فالسلطات لن تدخر أي جهد أو نفقات لتحديد موقعك.

ومع أن هذه التكنولوجيا الرائدة تعد بالراحة والأمان، فإنها تعني سيطرة أكبر للحكومة وانتهاكا للخصوصية.

نظارات الشمس.. خداع الإنسان يهزم الذكاء الصناعي

تعد شركة “سنس تايم” الصينية الشركة الناشئة الأعلى قيمة في العالم، إذ تبلغ أكثر من 4 مليارات ونصف المليار دولار، وقد اعتبرت في 2014 بأنها أول من أنشأ نظاما يتعرف على الوجه أفضل من البشر، وذلك بفضل خوارزميات التعلم العميق التي طورتها الشركة، وتدعم مجموعة متنوعة من التطبيقات، لكن التعرف على الوجه هو أكثر ما تشتهر به الشركة.

شركة “سنس تايم” الصينية هي صاحبة اختراع نظام التعرف على الوجوه

ووفقا للشركة فإن برنامج التعرف على الوجه الخاص بها هو من بين الأقوى في العالم، ولهذا أراد “جوشوا ليم” اختبار هذا النظام، فقام بالتنكر بارتداء نظارة شمسية وقبعة وشعر وشارب مستعارين وقناع.

وكانت المفاجأة أن نظام “سنس تايم” فشل بالتعرف عليه في 3 من أصل 5 محاولات، رغم أنه لم يكن عادلا حين ارتدى قناعا، ولكن ما أدهشه أن نظاما يزعم بأنه أفضل من البشر في تمييز الوجوه لم يتعرف عليه عند ارتدائه نظارة شمسية. ولكن ما تبرير الرئيس التنفيذي للشركة لهذا الفشل؟

يقول “شي لي” الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “سنس تايم”: أداة التعرف على الوجه لها استخدامات مختلفة، منها التحكم في عبور الباب، ولكن لعبور الباب علينا ضمان السلامة وتأمين مستوى أمان عال جدا، لذا فشل النظام في التعرف على “جوشوا ليام”.

تستطيع الكاميرات التعرف على الأشخاص أيضا من خلال طريقة مشيهم وحركة أجسامهم

ثم تابع قائلا: نظام التحكم بعبور الباب الذي خدعه “ليم” عبر التنكر يستطيع مع الوقت التعرف عليه حتى وهو متنكر، فالنظام لا يتعرف فقط على الوجه، بل أيضا على إيماءات الجسم، وهذا قد يحدث في المستقبل القريب، تسير وأنت تغطي وجهك، ومع ذلك سيتعرف عليك النظام.

ورغم كل ما تقدم، هناك هامش خطأ في الذكاء الصناعي، وهذا يعتمد على المعدات المستخدمة، ولكن في النهاية تؤخذ القرارات من البشر، حتى لو تجاوز الذكاء الصناعي مستوى الأداء البشري، لأنه سيبقى بحاجة إلى مساعدة من البشر.

حمى التقنية.. ولع بالذكاء الصناعي في بيئة لا تحترم الخصوصية

يشرح “شي لي” أسباب انتشار تقنية التعرف على الوجه بهذا الشكل السريع في الصين، قائلا: عدد السكان هائل جدا، ويستطيعون تجميع كم أكبر من البيانات لأغراض مختلفة، وهذا أمر مهم جدا للذكاء الصناعي المستند إلى البيانات الحديثة، إلى جانب وجود مواهب كثيرة مولعة بالتكنولوجيا الجديدة في البلاد، وهذا حفّز جامعاتنا على إنشاء أقسام للذكاء الصناعي، فبات لدينا مهندسون وباحثون يعملون على تطوير تقنية الذكاء الصناعي، وهناك أيضا المصادقة على السياسات ودعمها، فعندما تحاول استخدام تقنيات جديدة يجب أن توفر لوائح تبين مجالات استخدامها والسيناريوهات التي يمكن أن تستخدم فيها، كما أن الحكومة الصينية تشجع الصناعات المختلفة على استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة.

بات الجميع في الصين يتحدث عن الذكاء الصناعي، مما خلق طلبا كبيرا في السوق، ودفع الشركات للاهتمام أكثر بهذه التقنية القادرة على تغيير الصناعات، ففي الصين تشكل أنظمة المراقبة جزءا من الطلب الكبير المتزايد، ففي مقابلة صحفية أجريت عام 2018، أقرت شركة “سنس تايم” أن أنظمة المراقبة تشكل ثلث أعمالها، بيد أنها اليوم تفضل العمل في التطبيقات التجارية لهذه التكنولوجيا كجهاز اختبار الجاذبية والوسامة. لكن بخلاف دول الاتحاد الأوروبي لا تملك الصين قانونا يوفر حماية شاملة من جمع المعلومات الشخصية.

جهاز اختبار الجاذبية والوسامة هو أحد التطبيقات التجارية لكاميرات التعرف على الوجوه

يقول “شي لي” المدير التنفيذي لشركة “سنس تايم”: بإمكان مزودي التكنولوجيا المساعدة في وضع معايير محددة، فيما يخص نظام التعرف على الوجه يمكن الحصول على 3 مستويات مختلفة من الدقة، ففي بعض التطبيقات نسمح باستخدام المستوى الأدنى للتمكن من استخدام التكنولوجيا بالطريقة المناسبة، ونستخدم المستوى الأعلى في التطبيقات المهمة. وعلى الحكومة وضع هذه السياسات للمساعدة على تنظيم السوق، وسنكون في هذه الشركة أول من يطبق هذه المعايير.

ويلخص الباحث “جوشوا ليم” الفيلم بالقول: التكنولوجيا أداة قوية قادرة على تحقيق فائدة عظيمة، ولكن من الممكن أيضا أن يساء استخدامها. وتكنولوجيا التعرف على الوجه جديدة وآخذة بالتطور، ولهذا على الدول وضع تدابير احترازية لضمان أن تعمل التكنولوجيا لمنفعة الشعوب، بدلا من إلحاق الضرر بها.