تقنيات السلامة.. سباق التكنولوجيا مع حوادث السير القاتلة

تخلف حوادث السير يوميا مآسي إنسانية حقيقية، ولا يكاد يوجد منزل إلا وقد عاش أحد أفراده تجربة مروعة على الطريق أودت بحياته، أو تسببت له في عاهة مستديمة، أو على الأقل في صدمة نفسية تلازمه كلما جلس خلف مقود السيارة.

وتؤكد أرقام الهيئات الأممية هذا الوضع المخيف، فحرب الطرق تودي سنويا بحياة ما لا يقل عن 1.3 مليون شخص حول العالم، نتيجة تعرضهم لحوادث المرور، وتمثل الإصابات الناجمة عن هذه الحوادث السبب الأول لوفاة الأشخاص البالغين من العمر 15 إلى 29 سنة بحسب منظمة الصحة العالمية.

بالإضافة إلى ذلك تسبب حوادث السير والمرور إصابة ما بين 20-50 مليون شخص بجروح متفاوتة الخطورة، قد تؤدي إلى عجز يلازم المصاب طيلة حياته، ويحولها إلى جحيم لا يطاق. كما تكلف اقتصاديا في معظم البلدان سنويا ما يعادل 3% من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب مصاريف العلاج الباهظة، وكلفة فقدان إنتاجية أولئك الذين قتلوا أو جرحوا أو أصيبوا بإعاقات دائمة.

والأخطر في الأمر أن %90 من الوفيات الناجمة عن هذه الحوادث تسجل في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، رغم أنها لا تحظى إلا بنحو 45% من المركبات الموجودة في العالم.

وتزامنا مع اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا حوادث الطرق، في 21 تشرين الثاني/نوفمبر من كل سنة، سنتوقف في هذا التقرير عند جهود الحد من هذا النزيف، ومدى مساهمة التطور التكنولوجي والتقنيات المساعدة على القيادة في خفض عدد الوفيات والإصابات الناجمة عن حوادث المرور في العالم، وهو يشكل أحد أهداف خطة التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030.

السلامة أولا.. رسالة أول سيارة في التاريخ

ارتبطت حوادث السير باختراع البشرية للعربات المزودة بمحرك، وكان في البداية بخاريا قبل أن يصبح داخلي الاحتراق، وكانت أول سيارة في العالم تعمل بالبنزين من اختراع المهندس الألماني “كارل بنز” سنة 1885، وقد حملت رسالة واضحة للعالم، مفادها أن مكسب اختراع السيارة لا يجب أن ينسينا جانب الأمان والسلامة في استعمالها، وذلك بعد أن تعرضت سيارته الأولى لحادث اصطدام بحائط.

وبسبب السرعة التي كانت توفرها محركات الاحتراق للعربات، فقد كان أي فقدان للتحكم بها مرادفا لحصول حادث، وغالبا ما يكون مميتا في تلك الفترة، وقد سجل التاريخ أول حادث مميت بالسيارة سنة 1869 في أيرلندا، وذهبت ضحيته عالمة الفلك الأيرلندية “ماري وارد”.

سجل التاريخ أول حادث مميت بالسيارة سنة 1869 في أيرلندا، وكانت ضحيته عالمة الفلك الأيرلندية “ماري وارد”

ومنذ ذلك التاريخ وبعد الانتشار الكبير للعربات حول العالم، ومع تطور المحركات وازدياد قوتها وسرعتها، لم تتوقف وتيرة حوادث العربات عن الارتفاع، سواء بسبب انقلابها أو اصطدامها بسيارات أخرى، أو بجسم متحرك كالإنسان والحيوان، أو ثابت في الطريق كالأشجار والأعمدة الكهربائية.

ومن أجل تقنين استعمال السيارات التي أصبحت تشكل خطورة بالغة، فُرضت “رخصة القيادة” وكان ذلك أول مرة في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، حيث أصبحت إلزامية سنة 1893 في فرنسا، عندما كانت تجوب البلاد آنذاك حوالي 1700 سيارة فقط، وبعدها تشددت شروط قيادة السيارات، وفرضت قوانين صارمة لتنظيم السير والجولان.

غير أن ذلك لم يوقف نزيف الحوادث، بل ازدادت خطورة بازدياد أعداد العربات. وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن تتسبب حوادث الطرق في 13 مليون حالة وفاة، و500 مليون إصابة حول العالم بحلول عام 2030، إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة.

قتلى وجرحي على الطرقات.. الأسباب بشرية قبل كل شيء

تجمع الدراسات والأبحاث أن الخطأ البشري يبقى السبب الأول لوقوع حوادث السير والمرور حول العالم، فعدم التزام السائق بالنظام المروري وقواعد السير، والسرعة المفرطة، وعدم الانتباه من خلال استعمال الهاتف مثلا، وعدم وضع حزام الأمان؛ يرفع بشكل كبير نسبة وقوع الحوادث، واحتمال الوفاة أو الإصابة البليغة بسببها.

وكشفت دراستان مهمتان نشرت تفاصيلهما على مجلة “ذي لانسيت” (The Lancet) بأن زجر السلوك البشري في القيادة، كفيل بإنقاذ آلاف الأرواح على الطرقات، وأوضحت مثلا أن التدخلات الوقائية التي تستهدف مراقبة السرعة، يمكنها إنقاذ حياة ما لا يقل عن 340 ألف شخص على المستوى العالمي، أي ما يعادل 25٪ إلى 40٪ من ضحايا حوادث السير سنويا. كما أن الحد من القيادة تحت تأثير الكحول كفيل بإنقاذ أزيد من 160 ألف شخص كل سنة.

ويؤدي أيضا السلوك البشري السلبي مثل عدم استعمال الركاب لأحزمة الأمان، وعدم ارتداء الخوذات من قبل أصحاب الدراجات؛ إلى ارتفاع نسبة القتلى عند وقوع حوادث المرور. وكشفت الدراستان المنشورتان في مجلة “ذي لانسيت” بأن الالتزام بحزام الأمان والخوذة يمكن أن يسهم في إنقاذ حياة أكثر من 172 ألف شخص سنويا.

أحزمة الأمان.. عناق ينقذ الأرواح في اللحظات القاتلة

يشكل الزجر والتحسيس عصب الحد من الحوادث المميتة على الطرق، وهذا ما يفسر انخفاض عدد ضحايا حوادث المرور في القارة الأوروبية على مدار السنوات الـ45 الماضية، رغم تضاعف أعداد السيارات ثلاث مرات، نتيجة الجهود المبذولة في هذا الاتجاه. ويقابله تسجيل أعلى معدل وفيات على الطرق في أفريقيا، رغم أنه لا يسير على طرقاتها سوى 2% فقط من مركبات العالم.

وقد مكنت الأبحاث والتحسينات التقنية التي أدخلت على العربات في السنوات الأخيرة من تخفيض عدد القتلى على الطرق، مقارنة بالعربات التي أصبحت تجوب الشوارع، والتي تضاعفت أعدادها في السنوات الأخيرة، ليتجاوز عددها اليوم بحسب بعض محللي وخبراء صناعة السيارات 1.7 مليار سيارة، بمعدل يقارب سيارة لكل خمسة أشخاص.

يعمل حزام الأمان على منع تقدم الراكب إلى المام لحظة وقوع الحادث بتقنية البكرة والكرات

ويفترض بالنظر إلى هذا الرقم الضخم، أن تزداد احتمالات وقوع الحوادث أكثر من أي وقت مضى، بسبب الازدحام في الطرق، والسرعة التي أصبحت تسير بها العربات بمختلف أشكالها من شاحنات وحافلات وسيارات خفيفة. لكن من حسن الحظ أن عدد الضحايا لم يساير هذا الارتفاع الكبير في عدد العربات، بفضل الأمان النسبي الذي أصبحت توفره، خصوصا بعد أن أصبحت تتوفر بشكل تلقائي على حزام السلامة.

وشكل هذا الحزام البسيط نقلة نوعية في إنقاذ الأرواح عند وقوع الحوادث. وقد استعمل بالشكل المتعارف عليه اليوم بثلاث نقاط تثبيت في السيارات سنة 1959 من قبل شركة “فولفو” السويدية، ثم أصبح إلزاميا بشكل تدريجي. واليوم تؤكد الدراسات العلمية أن حزام الأمان يقلص خطورة وفاة السائق والركاب في المقاعد الأمامية بنسبة تتراوح بين 40 و50%، كما يقلل نسبة الوفيات والإصابات الخطيرة بين ركاب المقاعد الخلفية بنسبة 25٪.

وسائد الهواء.. دروع الركاب الواقية من الموت

تواصلت الأبحاث والتجارب لجعل السيارات أكثر أمانا وقدرة على تفادي الحوادث، واستثمرت شركات صناعة السيارات ميزانيات كبيرة لهذا الغرض طيلة السنوات الخمسين الماضية، ومن أهم النتائج المحققة في هذا المجال، اختراع الوسائد الهوائية (Airbags) المصممة لتنتفخ عند وقوع حادث اصطدام، وقد أصبحت اليوم من أهم وسائل الأمان التي توفرها السيارات.

يعمل نظام منع انغلاق المكابح “إيه بي إس” على تبديل المكابح بين الإطارات الأربعة كي يمنع الانزلاق

وقد أظهرت دراسات علمية أنه في حالة الاصطدام الأمامي، يمكن للوسائد الهوائية المخصصة للسائق والراكب أن تقلل الوفيات بنسبة تصل إلى 63%. كما تنخفض الوفيات عند وقوع حادث جانبي بحوالي 40% في السيارات المزودة بستائر وأكياس هوائية جانبية، بحسب تقرير لوكالة سلامة الطرقات التابعة للحكومة الأمريكية.

ومكنت التقنيات الأخرى المرتبطة بالمكابح من تقليل وقوع الحوادث وتجنب الاصطدامات العنيفة، وشكل نظام منع انغلاق المكابح “إيه بي إس” (ABS) أحد أهم أنظمة الأمان التي تمنع انزلاق السيارة أثناء الفرملة بسبب التوقف التام للعجلات عن الدوران. وساهمت أيضا أنظمة منع الانزلاق (Traction control system) ونظام الثبات الإلكتروني (ESC) في تعزيز التحكم في العربة في مختلف الظروف.

كما ظهرت في السيارات الحديثة أيضا أنظمة إلكترونية أخرى أحدثت ما يمكن وصفه بالثورة التكنولوجية في السيارات، نذكر منها على سبيل المثال نظام مراقبة ضغط الإطارات، ومثبت السرعة الذكي، وأنظمة مراقبة النقطة العمياء، والتحذير من مغادرة المسار، وتنبيه السائق أو الكشف عن النوم.

أنظمة القيادة الآلية.. خطر جسيم وجدل واسع وميزانيات ضخمة

قد يبدو الحديث عن القيادة الآلية في عالمنا اليوم أمرا عاديا، فهي متوفرة منذ سنوات بالنسبة للطائرات وبعض البواخر، لكن تطبيق هذا النظام على السيارات ظل عدة سنوات شبه مستبعد، وينطوي على أخطار كثيرة بسبب الازدحام على الأرض وكثرة العوائق والمتغيرات على الطرق، مقارنة مثلا بالسماء أو البحر.

ورغم ذلك لم تتوقف الأبحاث لتطوير هذه القيادة الذاتية التي كانت إلى وقت قريب ضربا من الخيال، ففي سبيل هذا الغرض أنفق حوالي 100 مليار دولار، حسب تقرير صادر عن مؤسسة “ماكنزي أند كو”، في الوقت الذي تسود فيه موجة تشكيك كبيرة في جدوى هذه التقنية.

وبحسب الدراسات التي أجرتها الإدارة الوطنية للسلامة على الطرق السريعة في الولايات المتحدة، فإن تطوير السيارات ذاتية القيادة، قد يساهم في خفض عدد الحوادث بنسبة 80% بحلول عام 2035. وهو ما دفع عددا من الشركات مع بداية الألفية الجديدة لتسريع تجهيز سياراتها بمجموعة من أنظمة القيادة الذاتية، وصولا إلى القيادة الآلية الكاملة التي ما زالت حاليا قيد التجريب.

“تيسلا”.. رائدة الذكاء الصناعي تواجه التحقيق الجنائي

وتبقى شركة “تيسلا” الأمريكية سباقة إلى تسويق هذا النوع من السيارات قبل حوالي 10 سنوات، كما طورت شركة “غوغل” برامجها الخاصة بالقيادة الذاتية باستعمال الذكاء الصناعي، واعتمدت عليها “أوبر” في بعض الولايات الأمريكية، مع إجبارية وجود سائق خلف المقود، إلا أن الحوادث التي تسببت فيها هذه السيارات جعلت الشكوك تحوم حول نجاعة التقنيات المستعملة فيها، ونالت انتقادات حادة وتعالت أصوات طالبت بمنعها، رغم الهدف النبيل وراء هذا التوجه، وهو تحقيق مفهوم القيادة دون حوادث.

وتجري السلطات الأمريكية حاليا تحقيقا جنائيا مع شركة “تيسلا” بخصوص أنظمتها للقيادة الذاتية، بعد تسجيل قرابة 300 حادث بعضها قاتل، بالإضافة إلى اتهامها بتضليل عملائها.

شركة “تيسلا” الأمريكية الأكثر عملا على تطوير السيارات ذاتية القيادة

ورغم هذه الانطلاقة الصعبة والبدايات المتعثرة، لم تتوقف شركات السيارات عن دمج أنظمة القيادة الذكية، ووضعت خمس مستويات لهذه الأنظمة، بداية بالمستويين الأول والثاني الذي نجده اليوم في السيارات الحديثة، ويشمل مثلا خاصية البقاء على المسار، ومثبت السرعة الذكي، والرَّكن الآلي، وأما المستوى الثالث فهو يوفر قيادة شبه مستقلة، بفضل المستشعرات القوية والخرائط المتصلة بالأقمار الصناعية، لكن مع ضرورة وجود السائق خلف المقود للتدخل في الحالات الطارئة.

وأما المستويان الرابع والخامس فما زالا حاليا قيد الاختبارات، ويوفران خاصية السير دون الحاجة إلى أي تدخل من السائق، ويتوقع أن تعرض سيارات المستوى الخامس بعد سنة 2025 بدون مقود ولا دواسات.

تقنيات التنبؤ بالحوادث.. معالم الثورة المنشودة

تسود التخوفات حاليا في أوساط صانعي السيارات بالتخلي نهائيا عن فكرة تسويق العربات التي تعتمد المستوى الرابع من القيادة الآلية، أو التخلي عن فكرة تطويرها إلى المستوى الخامس مستقبلا، بسبب المشاكل التي اعترضتها، وصعوبة تفاديها للحوادث بشكل تام. وأكدت شركتا “فولكس فاكن” الألمانية و”فورد” الأمريكية مؤخرا تركهما لمشروعهما في هذا الاتجاه.

لكن باب الأمل الذي تفتحه التكنولوجيا للحد من الحوادث لم يغلق بعد، وكشف معهد ماساشوستس للتكنولوجيا بشراكة مركز قطر للذكاء الاصطناعي (QCAI) مؤخرا عن إمكانية التنبؤ بعدد من الحوادث، والحيلولة دون وقوعها، من خلال خرائط دقيقة للغاية تحدد نقاط الخطر في الشوارع والطرقات التي ستقع عليها الحوادث وزمن حدوثها.

وتزود خرائط الخطر هذه ببيانات ومعلومات الاصطدام والحوادث التي حدثت في الماضي على هذه الطرقات، من خلال صور الأقمار الصناعية، بهدف تحديد المناطق عالية الخطورة ومحاولة التنبؤ بالحوادث المستقبلية.

وكشفت أيضا دراسة لمجموعة “بي إم دبليو” (BMW) الألمانية، ونشرت تفاصيلها سنة 2021؛ عن توصُّل باحثين إلى تطوير نظام جديد للإنذار المبكر للمركبات باستخدام الذكاء الصناعي، وهو قادر على التكيف مع آلاف احتمالات المرور الحقيقية، ويستطيع هذا النظام تحذير السائق قبل الحادث بـ7 ثوان، وهي مدة كافية نسبيا لاتخاذ قرار سريع للنجاة من حادث مميت.

ركاب الدراجات والمشاة.. غبن التجارب لأكثر الفئات عرضة للخطر

في مقابل التركيز على السيارات وتزويدها بالأنظمة المتطورة لحمايتها من الحوادث، يبقى الراجلون وراكبو الدراجات الفئة الأقل حماية على الطريق، والأكثر عرضة لأخطار الحوادث، وليس مفاجئا أن تشكل هذه الفئة نصف عدد ضحايا الحوادث المرورية في العالم، فالتقدم التقني الذي شهدته وسائل الأمان داخل العربات، لم يشمل كثيرا هذه الفئة.

فباستثناء الخوذة مثلا، لا يتوفر أصحاب الدراجات -سواء النارية أو الهوائية- على وسائل حماية أخرى، رغم بعض المحاولات لصناعة ألبسة خاصة تحمي صاحبها عند الاصطدام، أو تمكنه من وسائد هوائية تفتح عند ملامسة الأرض مباشرة، وهي تقنيات بقيت محدودة جدا ولم تخرج أحيانا من نطاق الاختبارات.