أنفاس النيل الأخيرة.. مجاعة توشك على الانفجار في أم الدنيا

كانت مصر وما تزال “هبة النيل” كما وصفها المؤرخ اليوناني العظيم “هيروديت”، فعلى ضفاف النيل قامت الممالك والإمبراطوريات، وأقام الفراعنة أهراماتهم الشامخة التي تسامر الشمس والتاريخ منذ ملايين السنين، ومنذ تلك السنين تدفقت مياه النيل في شرايين مصر، وسقت وأنبتت من كل زوج بهيج.

لا تعرف مصر ماء مثل ماء النيل، ولا يعرف المصريون فاكهة ولا خضارا كطعم ما يرتوي من ماء النيل، وما المصريون إن لم يكونوا أبناء النيل حين تفيض خزائن أمواجه بالخيرات، وشهداء قحطه عند جزره في تكرار للسنوات “اليوسفيات” التي لا تنمحي من ذاكرة شعب النيل.

لقد تحول النيل منذ عقود غير قريبة إلى ملف سياسي، وحاضنة استراتيجية لصراعات المنطقة، ومعبر مستمر لاقتصاده وبضائعه.

نهر النيل العظيم.. ابن الثلاثين مليون عام

يستند نهر النيل على تاريخ طويل من التدفق في شرايين أراضي واسعة جمعت بين حضارات وشعوب وألسنة متعددة، ووفق دراسة نشرتها مجلة “نيتشر جيوساينس” العلمية البريطانية، فقد توصل خبراء من جنسيات متعددة إلى أن عمر النيل يعود إلى 30 مليون سنة، عكس ما كان متواترا لدى الباحثين والخبراء من أن النيل العظيم هو ابن ستة ملايين سنة لا أكثر.

ويذهب الباحثون إلى أن منبع نهر النيل من منطقة “تانا” الإثيوبية يعود بالفعل إلى ذلك التاريخ السحيق. وبالإضافة إلى امتداده في الزمان، فإنه استطاع أن يشق بأمواجه المتدفقة دروبا وأمكنة متعددة، حيث يندفع متلويا في الأراضي الأفريقية على طول يزيد على 6700 كلم.

وتتعدد منابع النيل وروافده بتعدد أسمائه، حيث ينبع النيل الأبيض من بحيرة فكتوريا الممتدة على الحدود بين أوغندا وتنزانيا وكينيا، بينما ينبع النيل الأزرق من بحيرة “تانا” بمرتفعات إثيوبيا، ويشق النهران صحاري واسعة وجافة، قبل أن يتحدا عند العاصمة السودانية الخرطوم ليبدأ تشكل نهر النيل ويواصل تمدده نحو الشمال، قبل أن يلتحم النهر الدفاق بنهر عطبرة في السودان، ثم يعبر مصر من جنوبها لشمالها، قبل أن يلقي رحال أمواجه في البحر الأبيض المتوسط.

وللنيل أنى توجهت ألسنته الدفاقة قصة مع الإنسانية نماء وازدهارا وحضارة وبناء وغضبا وكوارث وتدميرا حينما تزمجر أمواج سيله الغاضب، وهو في كل ذلك أب من آباء أفريقيا، يحنو عليها وتجني منه سلال الغذاء متدفقا منسابا أو غاضبا دفاقا.

 

ويشق النيل عشرة دول أفريقية تعرف بدول حوض النيل، وهي مصر والسودان وجنوب السودان وإثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبروندي والكونغو الديمقراطية، ثم أرتيريا، ويمتد على مساحة حوض تزيد على 3.4 ملايين كيلومتر مربع، وإلى كل ضفافه تتجه أعين الدول العشر سعيا إلى الاستفادة القصوى من خيراته، وتجنب سنوات مدّه الغاضب.

مجاعة القرن السادس.. حين أكل الناس لحوم الكلاب والأطفال

تحتفظ الذاكرة المصرية بقصص مؤلمة حفرت نفسها في تاريخ الأيام، فعندما قرر النيل ذات أعوام أن يحتفظ لحوضه بأمواجه فاشتد احتباسه وتواصل جزره، امتدت يد الفاقة والمأساة إلى كل قرى ومدن مصر، حتى سجلته الذاكرة التاريخية في أوبئة فتاكة ومجاعات حولت الإنسان الجائع إلى وحش يقتات من جسد أخيه حيا وميتا.

ويذكر المقريزي سنوات الجفاف الماحق الذي ضرب مصر سنة 596 هجرية (1200 ميلادية)، حيث يقول: وفيها تعذرت الأقوات بديار مصر وتزايدت الأسعار وعظم الغلاء حتى أكل الناس الميتات وأكل بعضهم بعضا، وتبع ذلك فناء عظيم، وابتدأ الغلاء من أول العام وتمادى الحال ثلاث سنِين مُتَوَالِيَة لا يمد النيل فيها إلا مدّا يسيرا، حتى عدمت الأقوات وخرج من مصر عالم كبير بأهليهم وأولادهم إِلى الشّام فماتوا في الطرقات جوعا، وشنع الموت في الأغنياء والفقراء فبلغ من كفنه السلطان العادل (الأيوبي) من الأموات -في مدة يسيرة- نحوا من مائتي ألف إنسان وعشرين ألف إنسان، وأكلت الكلاب بأسرها، وأُكل من الأطفال خلق كثير فكان الصغير يشويه أبواه ويأكلانه بعد موته، وصار هذا الفعل لكثرته بحيث لا ينكر، ثم صار الناس يحتال بعضهم على بعض ويُؤخذ من قدر عليه فيؤكل، وإِذا غلب القوي ضعيفا ذبحه وأكله، وفُقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم إلى المرضى، فإِذا صار الطبيب إلى داره ذبحه وأكله.

 

ويواصل المقريزي في سرد الفظائع التي نتجت عن انحباس نهر النيل، فيصف حال القاهرة بنت الثلاثين مليون نسمة الآن قائلا: خلت مدينة القاهرة ومصر (الفسطاط) من أكثر أهلها، وصار من يموت لا يجد من يواريه فيصير عدة أشهر حتى يؤكل أو يبلى، وقدم إلى القاهرة ومصر من أهل القرى (الريف) خلق كثير، وكثر الجوع وعدم القوت حتى أكلت صغار بنى آدم، فكان الأب يأكل ابنه مشويا ومطبوخا، وكذلك الأم، وظفر الحاكم منهم بجماعة فعاقبوهم حتى أعياهم ذلك وفشا الأمر، فكانت المرأة توجد وقد خبأت في عبها كتف الصغير أو فخذه، وكذلك الرجل، وكان بعضهم يدخل بيت جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تنزل ليأكل منها فإذا فيها لحم الأطفال، وأكثر ما كان يوجد ذلك في أكابر البيوت، ويوجد النساء والرجال في الأسواق والطرقات ومعهم لحوم الأطفال، وأحرق في أقل من شهرين ثلاثون امرأة وجد معهن لحوم الأطفال، لما فشا ذلك حتى اتخذه الناس غداء وعشاء وألفوه، وقل منعهم منه؛ فإنهم لم يجدوا شيئا من القوت لا الحبوب ولا الخضروات.

ولا يخفي المصريون اليوم مخاوفهم من مآسي اقتصادية وتنموية جراء انحباس نهر النيل، ونقص حصة مصر من مياه جارها الدفاق بفعل أزمة سد النهضة الإثيوبية التي تتفاقم دون إمكانية الوصول إلى حل لها لحد الآن.

اتفاقيات الشراكة.. ثرثرة على ضفاف النيل

لم يشفع للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي استحلافه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بأنه لن يضر مصالح مصر من خلال سد النيل، ورغم ترديد آبي أحمد لليمين في مشهد ضاحك كان أقرب إلى السينما المصرية، فلا شيء على أرض الواقع قد تغير، فما تزال إثيوبيا تواصل عملها فيما تصفه مصر بخنق مجاري النيل، وتضييق روافد الحصة المصرية منه، وما تزال القاهرة تستنجد بالعالم وتنادي لاستنقاذ مياهها التي باتت -أو توشك- تخرج ببطء من بين أصابع إثيوبيا الناهضة.

ظلت مصر متمسكة بضبط النفس وبحقوقها التاريخية ومصالحها في مياه النيل، لكنها استطاعت مع ذلك وأد أي محاولة إثيوبية خلال القرن الماضي للتحكم في مياه نهر النيل.

يمتد نهر النيل 2500 كيلومتر عبر ثلاث دول كبرى هي أثيوبيا والسودان ومصر التي هي شريان حياتها الأوحد

ويعود الجدل بين مصر وإثيوبيا حول حصص النيل إلى العقود الأولى من القرن العشرين، عندما رفضت مصر سعي إثيوبيا وبريطانيا من ورائها إلى إنشاء خزان بحيرة “تسانا” الذي كان سيحد من تدفق النيل إلى مصر والسودان، وهو ما أثار غضب الشارع والنخبة المصرية، وأجل المشروع إلى حين، ثم تكرر المنع المصري لإثيوبيا من بناء سد “تيس أباي”، حيث فرض الرئيس المصري جمال عبد الناصر على أديس آبابا التخلي عن مشروعها ذلك، باعتباره تهديدا للأمن القومي المصري، فتراجعت إثيوبيا بسرعة وطوت الملف إلى حين.

ثورات الربيع العربي.. انفجار ينابيع الأزمات الخامدة

مع تدهور العلاقات بين البلدين، واحتفاظهما بدبلوماسية اسمية الأداء والحصيلة، بات ملف النيل أحد الأوراق الأساسية التي تحرك بقوة جارحة صمت الدولتين حول استراتيجيتهما التنموية تجاه ضفاف النيل.

ومنذ العام 1981 بدأت إثيوبيا مسارا جديدا لترقية وتطوير قطاعها الريفي معتمدة على مياه النيل الأزرق، وعلى عدم وجود اتفاقية ملزمة مع الدول النيلية، ونفذت مجموعة من المشاريع من بينها مشروع سد فيشا -أحد روافد النيل الأزرق- ومشروع الليبرو على نهر السوباط، ومشروع خور الفاشن، وهي مشاريع تؤثر في نسب المياه التي تصل إلى مصر.

ومنذ العام 2009 بدأت أزمات النيل تطفو على سطح السياسة والاقتصاد بين دوله، إثر مطالبة مصر بالتشاور المسبق في حالة السعي لإقامة أي مشاريع مائية على ضفاف النيل، وقد قوبلت دعوة مصر بعدم اهتمام من أغلب دول المنبع النيلي، مذكرين مصر بأنها لم تتشاور مع أحد عندما أنشأت السد العالي وخزان أسوان وقناة توشكي.

ومع انشغال مصر بأوجاعها خلال فترة الثورة، وتفاقم أزماتها السياسية في عهد ما بعد الثورة والانقلاب، وتزايد قبضة السيسي، وجدت إثيوبيا فرصتها التي لا تعوض وأطلقت حفاراتها في عمق ضفاف النيل، لترفع إلى الآفاق العالية سد النهضة التي يمثل أخطر ضربة للاقتصاد الاستراتيجي لمصر.

حوض النيل الأزرق.. تعاون أمريكي إثيوبي لإنشاء السد

بدأت المساعي الإثيوبية لإنشاء سد كبير على ضفاف النيل منذ أكثر من 63 سنة، حيث اتفقت واشنطن وأديس أبابا على إنشاء البرنامج التعاوني للولايات المتحدة الأمريكية وإثيوبيا، لدراسة حوض النيل الأزرق الذي استمرت أعماله طيلة خمس سنوات، وانتهى بتحديد 26 موقعا مناسبا لإنشاء سدود هائلة قادرة على تخزين 81 مليار متر مكعب.

وتتعدد المخاوف المصرية من أن يؤدي سد النهضة إلى نضوب ضفافها المائية، وانهيار اقتصادها وهو ما يعني بالنسبة لها إعلان حرب اقتصادية ضد أرض الكنانة التي لم تعرف غير النيل رافدا ومغيثا في الأزمات.

بعض مراحل ملء سد النهضة بماء النيل عبر 2019 و2020

لكن إثيوبيا التي ستتكلف في السد حوالي 5 مليار دولار، وتسعى من خلاله إلى توفير 60% من حاجياتها المائية والكهربائية لا ترى في سدها أكثر من سعي وطني للاستفادة من ثروة وطنية خالصة مجرى ومنبعا، وترفض ما تعتبره إرثا استعماريا تمثله الاتفاقيات المائية الموقعة في الفترات ما بين 1929-1959، التي أعطت -حسبما ترى إثيوبيا- مصر والسودان نصيب الأسد من مياه النيل، وترى أديس أبابا أن لها حقا لن تتنازل عنه في مياه النيل، وأنها تفتح باب التفاوض من أجله لا من أجل التنازل عنه.

وإذا كان مشروع سد النهضة بوابة فيضان سياسي واقتصادي عميق في مصر، فإنه في إثيوبيا بعكس ذلك، إذ يعتبر عنوان نهضة اقتصادية وورقة سياسية يراهن عليها رئيس الوزراء الشاب آبي أحمد في استمرار حكمه وتحقيق النماء الذي يعد به الشعب الإثيوبي.

تتسارع وتيرة الإنجاز في الضفة الإثيوبية من النيل، وتتعقد الظروف والأحوال في الضفة المصرية، ويبقى النيل شاهدا دائما على صراع جيرانه عندما تتضارب مصالحهم، وعلى أحلامهم وآمالهم عندما تنسجم ضفاف العلاقة بينهم انسجام مياه النيل في شرايين الكنانة.