الهواتف المحمولة.. هل تحمل تهديدا خفيا للبشر؟

جدلية الصراع القديمة الحديثة بين حماة البيئة ودعاة حقوق الإنسان من جهة وبين أصحاب المال ورجال الأعمال من جهة أخرى، تبدو غير قابلة للحسم ما دام الإنسان نفسه موجودا، حتى إنها تستوعب كامل مساحة النشاط البشري وعلى مر الزمان.

ويتجلى هذا الصراع في القرون الثلاثة الأخيرة من خلال القفزات الواسعة المتسارعة التي حققها الإنسان في مجال التكنولوجيا والعلوم، حيث شهدت كل قفزة وجود فريقين من الناس ما بين مؤيد ومعارض.

ولعل تكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية ونقل الكهرباء قد حازتا قصب السبق في هذا الاستقطاب الحاد، والذي بلغ حد الاحتراب وكيل التهم بين الفريقين على حد سواء.

 

في هذا الفيلم الوثائقي “الهواتف المحمولة.. التهديد الخفي” يمكنك أن تقف على عمق الهوة السحيقة التي يستحيل ردمها بين صنّاع الهواتف المحمولة وبين طائفة من المستخدمين الذين يعانون من أمراض فرط الحساسية ضد الكهرباء والترددات الراديوية. وسنعرض تباعا آراء بعض المهتمين من كلا الفريقين.

من أين يأتي الخطر؟

يقول مدير دائرة علوم الأعصاب في معهد كارولينسكا الدكتور “أولي يوهانسون” إن مستويات الإشعاع الراديوي أو الميكروي قد تضاعفت في السنوات الخمسين الأخيرة إلى أضعاف لا يمكن تصورها.

وأضاف أن مليون مليار ضعف من زيادة الإشعاع فوق الحد الطبيعي لا يمكن للخلايا الحية في الإنسان والنبات أن تتعايش معها، حيث إن طبيعتها البيولوجية لم تصمم لهذه المستويات من الإشعاع.

ويتابع يوهانسون تأثير الأمواج الراديوية على الناس منذ أن دخلت الحواسيب السويد لأول مرة في بداية الثمانينيات، حيث بدأ الناس يلاحظون تغيرات جلدية نتيجة تعرضهم المتواصل للإشعاعات الناتجة عن الشاشات.

ويقول يوهانسون “كانت لنا دراسات أخرى على نسق ضربات القلب وكريات الدم الحمراء وتجلط الدم وكذلك استقصاء ضعف الوظائف المسمى فرط الحساسية للكهرباء، غير أن الخطر الأكبر يكمن في أن لهذه الأمواج ضررا بالغا على الحياة الجنسية عند البشر، إذ إن تجارب أجريت في هذا الصدد تشير إلى أضرار جسيمة حدثت للحيوانات المنوية أدت إلى تناقص أعدادها وتباطؤ سرعتها، الأمر الذي يهدد خصوبة الإنسان بل وقد يؤدي إلى تلاشيها”.

للأمواج الراديوية ضررا بالغا على الحياة الجنسية عند البشر
للأمواج الراديوية ضرر بالغ على الحياة الجنسية عند البشر

في هذا الصدد يضيف المدير البيئي السابق في شركة أريكسون العملاقة المنتجة لتكنولوجيا الاتصالات “أوريان هاليبيري” أن مرض فرط الحساسية للكهرباء كان لا يتجاوز حالات محدودة جدا في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ولكنه تضاعف بشكل هائل ليصل إلى 10% من مستخدمي التكنولوجيا هذه الأيام، وهذا الرقم مؤهل للتضاعف في الخمس أو العشر سنوات القادمة على أبعد تقدير.

آراء مغايرة

غير أن عضو اللجنة العلمية الاستشارية للترددات الراديوية “مانويل ديسكو” لا يرى الأمور بهذه الصورة القاتمة، فهو يُقر بوجود هذه الحالات المرضية لكنه يرجعها إلى عوامل نفسية تتأثر بمجرد رؤية الهوائيات على أسطح البنايات وليس على الأمواج المنبعثة منها.

ويتابع قائلا “إن الأمواج الكهرومغناطيسية ليس مصدرها فقط الهواتف المحمولة أو هوائياتها المثبتة على أسطح البنايات، ولكن الشمس وحدها تنتج طيفا هائلاً من تلك الأمواج، هذا إضافة إلى المصادر الأخرى التي أوجدها الإنسان بنفسه منذ عشرات السنين مثل أمواج التلفزيون والإذاعة وكذلك الأمواج الناتجة عن موصلات الكهرباء ذات الضغط العالي، فإذا أردتم التخلص من الهواتف المحمولة وهوائياتها، إذاً فلنتخلص من كل التكنولوجيا الباعثة للأمواج، تعالوا بنا نعود إلى القرن الثامن عشر ونستمتع بأجواء خالية من الكهرومغناطيسية، لكنني على يقين أن هذا الطرح لا يُرضي حتى المصابين بفرط الحساسية للكهرباء” .

زادت نسبة الإشعاع إلى مليون مليار ضعف فوق الحد الطبيعي
زادت نسبة الإشعاع إلى تريليون ضعف حدها الطبيعي

ويضيف ديسكو “إن تصنيف بعض المنظمات والوكالات لهذه الأمواج الناتجة عن الأجهزة المحمولة على أنها مسرطنة محتملة؛ يأتي في سياق نفس التوصيف للقهوة على أنها مسرطنة محتملة، وكذلك كثير من الأشياء الموجودة في الطبيعة أو التي يصنعها الإنسان”.

من يحمي أطفالنا؟

“منيرفا بالومار” سيدة مصابة بمتلازمة فرط الحساسية للكهرباء تصف معاناتها المستمرة بالقول “أصبت بهذا المرض منذ عدة سنوات، كانت تنتابني حالات من الصداع الشديد تصاحبها تشنجات، ومنذ أن تم نصب ذلك الهوائي قرب منزلي أصبحت أحس باضطراب في نبضات القلب وحالات من الغثيان وضعف التركيز الذهني. أستمع إلى الكلمات ولا أتصور معانيها، يا إلهي كم أنا متعبة، حتى إنني لم أعد أستطيع العمل أو حتى إجراء بعض المحادثات الهاتفية، لا أتخيل أن أعيش حياتي دون معاناة كما كنت في السابق”.

أما “سيلفيا ليندهايم” وهي مصابة أخرى بمتلازمة فرط الحساسية للكهرباء، فتقول إنها كانت تدرّس الأطفال لمدة تزيد عن أربعين عاما، وأصبحت تلاحظ سلوكيات عند الأطفال لم تكن تراها من قبل، مثل فرط الحركة وعدم الاستقرار على مقاعدهم وقلة قابليتهم للتعلم وحالات الذهول وعدم التركيز، وتعزو ذلك إلى الأمواج الكهرومغناطيسية لا شيء غيرها.

وتقول ليندهايم “الأطفال لا يستطيعون التعبير عن معاناتهم، والوالدان لا يدركان الخطر الذي يهدد أطفالهم، ولجنة الحماية من الإشعاع لا ترى أن ثمة خطرا أصلا”. وتتساءل: من يحمي أطفالنا؟

ماذا نفعل؟

في ندوة عن نتائج دراسات “ردة الفعل اللاإرادية” التي عقدت في مدريد عام 2005 يقول الدكتور “أليخاندرو أوبيدا”: حينما نتحدث عن الخطر الناتج عن استخدام الأجهزة المحمولة، فلا يوجد حتى الآن ما يؤكد حتمية وجوده، ولا يوجد ما يؤكد أن استخدامها قد تنتج عنه آثار ضارة، حتى إن قوانين الفيزياء التي نعرفها لا يوجد فيها ما يقر بحتمية وجود ضرر من هذه التكنولوجيا. ولكننا معرضون للخطر، وأطفالنا كذلك، فيجب أن نتخذ كافة الاحتياطات اللازمة لدرء الخطر”. وهذه بعض التوجيهات العامة التي يقدمها الدكتور أليخاندرو أوبيدا:

– يجب عدم استخدام هذه الأجهزة لفترات طويلة متواصلة.

– على صغار السن تجنب استخدام الهاتف المحمول في الوقت الحاضر، من باب الاحتياط.

– استخدموا الأجهزة التي لا تحتاج في تشغيلها لليدين.

– لا تضعوا الهاتف الجوال على الأذن قبل أن تستكمل المكالمة الهاتفية إجراءاتها الأولية.

– حاولوا استخدام هذه الأجهزة خارج المنزل، واستخدامها بأقل ما يمكن داخل السيارة.

من جهته يقول رئيس قسم البيئة في الوكالة الدولية لبحوث السرطان “يواكيم شوتس” “نحن في حيرة من أمرنا، الجميع في الوقت الحاضر يستخدم الأجهزة المحمولة، علينا القيام بجهود أكبر وأبحاث أكثر”.

يجب عدم وضع الهاتف الجوال على الأذن قبل أن تستكمل المكالمة الهاتفية إجراءاتها الأولية
يجب عدم وضع الهاتف الجوال على الأذن قبل أن تستكمل المكالمة الهاتفية إجراءاتها الأولية

ويضيف “وكالتنا تقوم بجهود بحثية بحتة، تستخدمها منظمة الصحة العالمية في صياغة سياسات تطالب بها الحكومات والدول لتنفيذها من أجل الحد من انتشار السرطان، هناك أيضا اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير الأيوني، وهي لجنة مستقلة غير مرتبطة بوكالة بحوث السرطان، وظيفتها إصدار التوصيات والنصائح والحدود المسموح بها من أجل الحد من خطر الإشعاع”.

بيد أن معظم هذه اللجان والمنظمات يتركز مجال بحثها على التأثير الحراري المصاحب لاستخدام الأجهزة التي تطلق الإشعاعات، وهو التأثير الذي كانت السلطات العسكرية الأميركية تركز عليه في الخمسينيات إبان استخدام هذه الإشعاعات في الحروب، وهي الفكرة التي يعارضها كثير من الباحثين المستقلين الذين يرون أن تأثير هذه الأمواج لا ينحصر في الجانب الحراري فقط، وإنما يتجاوزه إلى الأجهزة العضوية والخلايا، وحتى بناء الحمض النووي (دي إن أيه) والمسؤول عن توريث الصفات البشرية.

صراع المصالح

يدخل هذا السجال منعطفا خطيرا غير مسبوق عندما يظهر لاعبون جدد على خط المواجهة هما الصحافة والسياسة، فالإعلام يشكك في كثير مما يقوله السياسيون وأصحاب الصناعات عن مدى ملاءمة هذه المنتجات لحياة البشر، إلى درجة أن بعض الصحفيين باتوا يتهمون نزاهة بعض المنظمات واللجان الأكاديمية المحايدة التي يتم تشكيلها أو التواصل معها من بعض البرلمانات والحكومات.

يرى الباحثون أن تأثير الأمواج الراديوية لا ينحصر في الجانب الحراري فقط، وإنما يتجاوزه إلى الأجهزة العضوية والخلايا،
يرى الباحثون أن تأثير الأمواج الراديوية لا ينحصر في الجانب الحراري فقط، وإنما يتجاوزه إلى الأجهزة العضوية والخلايا

ويقول الصحفيون إن بعض هذه المنظمات قد تغير نتائج بحوثها إذا ما تبنت إحدى الشركات المنتجة للتكنولوجيا تمويل هذه الأبحاث، بحيث تكون الأرقام والمعطيات الجديدة في الإطار الصحي المقبول للرأي العام.

ولا يتورع الإعلام وبعض المنظمات الأهلية عن كيل التهم إلى السياسيين والبرلمانيين، حيث يقول إنهم باتوا يقبلون فكرة وجود بعض الخسائر البشرية ضمن نطاق محدد.

“إنهم يعيشون في حالة حرب”، هكذا عبر الإعلاميون الذين يرون أن أهل السياسة يقبلون خسائر بشرية بنسبة تتراوح بين 5 و10% مثلما هي خسائر الحروب.

ويقول بعض الإعلاميين “نحن لا نعيش حربا ولا نريد، فبدلا من حمايتنا من خطر الإشعاع، فإنهم يقدمون الحماية والغطاء القانوني للشركات المنتجة ويستخدمون حدود الخطر التي توصي بها لجان البحث على أنها نطاق آمن تتحرك من خلاله الشركات المنتجة”.

كل الأطراف تتبادل التهم، الجميع يقر أن مئات الملايين من الأموال تستثمر في تجميل هذه الصناعة في عيون الناس. هناك جماعات ضغط كل همها أن تصاغ التوصيات بما يتناسب مع القدرات التي تستوعبها خطوط الإنتاج، حتى خرجت أصوات تنادي بالفصل التام بين المنظومات البحثية وأرباب الصناعة من حيث التمويل، وهذه مقاربة جيدة إذا كانت ممكنة.

توافق مستحيل

ومهما حاولنا في نهاية المطاف أن نخرج بخلاصة توافقية بشأن الموضوع فإن التوفيق لن يكون حليفنا دون أدنى شك، حيث إن التضارب في الآراء يصل حد التناقض الذي يستحيل معه الوصول إلى نقطة مشتركة.

على صغار السن تجنب استخدام الهاتف المحمول لفترات طويلة

فبعض الباحثين يرى خفض طاقة الإرسال إلى الحد الأدنى الذي يضمن بالكاد وصول الإشارة صحيحة، ويحافظ على الحد الأقصى للسلامة البشرية. وبعضهم تصل به حدود الجرأة إلى القول بوقف استخدام هذه التكنولوجيا حتى يتسنى للعلماء والباحثين اكتشاف أساليب أكثر أمنا للصحة البشرية.

وحتى نصل إلى اتفاق لا نكاد نرى له أي مسوغات منطقية، فقد يكون مطلوبا من أرباب الصناعة محاولة كبح جماح تطلعاتهم إلى النجوم والسيطرة على شغفهم وحبهم لجمع المال. فيما يتعين على المجتمعات البشرية التي تشرئب أعناقها إلى الرفاهية المطلقة والسعادة اللامتناهية أن تنظر إلى الوراء قليلا لتكتشف أن تسعة أعشار سكان هذا الكوكب لا يجدون الماء الصالح للشرب، وأن معظم أسباب الوفيات في الجنس البشري ناتجة عن المجاعة والأمراض البدائية والحروب والتصفيات العرقية وليس بسبب التكنولوجيا.